وثنية أصحاب الليالي

الليليين في جلساتهم الدائرية حول النار (المعسل و الأكل) أشبه بالوثنيين الباغان Pagan و أتباع ويكا بدلا من الحنفيين. لأن أتباع الأديان القديمة و بقايا الوثنية الحالية (الهندوسية، و القبائل البدائية في غابات الأمازون و بورنيو)، كده بيسووا: يراقبوا النجوم، يسهروا الليالي، يعيشوا في الظلمات.

بالذات في الشهر اللي يزيد فيها مراسيم الملذات و السهر و مراقبة الفلك و المجرات السماوية، و الصحصحة على النهج الفامبايري/النوكتورنالي/الليلي. و لأن الظلام تضيق الحواس إلى مدى وصول الضوء الاصطناعي (اللمبة و الشمعة و النار)، ليس من الغريب ظاهرة الاهتمام الزائد حول النهايات و الموت و أحداث ما بعد الموت بين الليليين أكثر من الصباحيين.

.

أفكارنا مبنية على مدركات الحواس، من الكلام اللي نسمعها، الأكل اللي نستطعمه، التغريدات اللي نقراها، الصابونات اللي نتشمّمه. بما أن مدى إدراكنا للعالم محدد على مدى الضوء الاصطناعي، يعني الليل تجبر على التركيز حول الذات و ما أدراك ما الذات. بالتالي، أساليب العلم و الفن و اللهو بالنسبة لأبناء الليل من النوع المنحصر حول الذات و الملذات و امتداد لهذه الذاتيات (“نفسي و أهلي و مالي و ديني و حبيبي و بس”).

و لأن الليل طبيعتها كئيبة و حتمية (مين يسهر الليالي غير الزعلان و الوسواس و الحرامي؟) فحرس الليل مائلون للاستهلاكية و الأنانية أكثر من الصباحيين. و العكس صحيح، أن الإنسان الصباحي، مع انشغاله بالإنتاج، طبيعته الاستهلاكية أبطأ و أكثر تأني لأنه مدرك بجميع حواسه قد إيش الأرض واسعة و تتطلب حذر في توزيع المصادر.

الصباحيون مضطرون يوسعوا آفاق نظرهم حيثما تصل ضوء الشمس. للخارج البعيد، للأرض و المطر و النحل و متطلبات الحقل و المحصول و المراعي و الرعيّة بكل ما فيهم من احتياجات صباحية/دايورنالية. مما أدى إلى ميل تركيز دراساتهم الفلسفية حول مشتقات الصباح : الثبات و التتبع الروتيني و الانتظام النسبي (لأن ضوء البزوغ تفرق عن ضوء الضحى و الزوال و العصر و المغيب. أما الليل، من أول لآخره: ظلام).

.

المغزى من هذا الكلام مو لتفضيل أو لاحتقار بعض الشعوب عن غيرها. كبرنا على جاهلية التفاضل بين الشعوب و الأجناس. المغزى إنو الناس أجناس، منهم ليليين و منهم صباحيين و من بعضنا نستفيد. و بما أن أكثر من 50% من مادتنا الحيوية مائية، فعندنا المرونة الهائلة للتكيف مع الاحتياجات و الضرورات الحياتية للانتقال من طبيعة إلى آخر.

لو ما كان لبعض منا القدرة ليكونوا ليليين، ما سلمنا الليالي. و لو ما كان في بُـنيتنا القابلية للانتقال من الليلية إلى النهارية، ما حضر منا دوامه المدرسية أو المزرعية. و لو عرفت أوجه تشابه عاداتك و تقاليدك مع الوثنيين أو الحنفيين أو اللأغنوستيين، هل ستبقى على إصرارك أن دينك و طقوسك و أسلوب حياتك هي الوحيدة النافعة؟ هل ستبقى على إصرارك أن رأيك و رأي جماعتك هي الرأي الحق المطلق على البشرية أجمع؟

أم ستمسك عن تغيير الآخرين إلى أن تغير شيء من عاداتك الوثنية؟

مرطبانات أمي

أمي تحبّ تشتري و تجمع قرابيع على الإنترنت و تنسبهم بأنتيكات. الفترة الأخيرة، مسكت مزاجها على مرطبانات زي هذي:

مرطبانة عن مرطبانة غير!
من معجزات وسائل النقل و استقعادهم عليا، إنو من المرطبانات الستة اللي وصلوا البيت، ما انكسر منهم إلا واحدة.

من الهلع، قلت لها لما تموت حأرمي كل قرابيعها في الزبالة.

قالت حتصير شبح و تسكن البين-و-البين لترعبني.

بصفتها البكر بين إخوانها، فتحت لها أكبر مرطبانة. "إيبو، سمعتي عن علاءالدين و الجني الأزرق بتاعه؟"

و عشان ما تنسى أي مرطبانة حتسكن فيها لما تصير شبح، كتبت في كل وحدة أساميهم: أمي و أخوانها. (اتخيل لو رفعت غطاء المرطبانة الغلط و فضحت أسرار نسائية لشبح خالي، مثلاً.)

الكلام داه صار على المغرب. و انت عارف رهبة المغيب. و صفنت أمام خمس مرطبانات أنتيكة عليهم أسماء خيلاني و خالاتي و أمي و المؤذن بينادي و بيتشهد.

فكملت كتابة:

Wawung, Ibu, Ade, Anggi, Miau
كتبت اسمي و أسماء إخواني و سيدي الشيخ على ورقة و حطيت الورقة -لأ، بل جمعتهم في مرطبانة أمي.

و كتبت أسماء عيال خالاتي و خالي معاهم. و اسم خالي العازب مع جدي و جدتي.

للاحتياط.

اعتزلنا لفظ الفضة

 

ياخي، مافي زي الاكتئاب أنيسا للإبداع.

طبعا، هذا لو الاكتئاب ما قلب عليك و دفّك إلى حفرة الانتحار. بس مو مشكلة. معظم الناجين من فتك الإبداع أنهوا فترة عزائهم و بتقبّـل انعدام الأمل أخيراً و نهائياً من حياتهم، ليتعايشوا و يتأقلموا مع ثبات و انتفاخ حجم الاكتئاب في شتى فراغاتهم. (فعلاً، الكآبة فضاء من فيضان الفضاوة. اصطلاحاً، ما في مشغول فاضي لتفويض الكآبة بفوضاته.) و تعلموا كيف يقللوا من سيطرة الاكتئاب تماما (على الفارغ و المكدوس) برفع نسبة التبن في حميتهم - فلا بأس.

أمزح معك. التبن وجبة أساسية لا مفر منه، سواء كنت من المكتئبين أو المتشردين في الفوضة. اللهم احنا مخيرين بين أكلها أو أخذها كتحاميل.

ما سمعت

At some point, it became unbearable.

How are we, small and far and mortal, supposed to bear a force as powerful as love?

أزعجني السؤال. أزعجتني المعطيات: مو معقول البشرية بصغرها و حدتها و قسوتها مكلفة بشيء مثل الحب.
مثل الحب اللي وقعنا فيه.

طب تعال، قلت، دام الحب طاقة كونية، تعال نستشيره و نسأله
ليش، يا إلـهي؟ معقول تكلفنا ما لا طاقة لنا و لا وسع؟

و جمعتك من خصرك، ضلع على ضلع، و سحبتك معي، و سلّمنا أرواحنا و أجسادنا و الكلفة التي كادت تقتلنا للبديع.

و استنصتناه.

(I lack the language. I don't care. I have to tell.)
It sounded, at first, like sand falling in an hourglass.
So so so so so soft. Soft.
Swish. Swish. Wishwishwish.

Then it grew louder. And louder. Earth roared. Thunder rolled. Until there was nothing, none of you, none of me, none of all. All but frightful noise.

And something terrible cracked.
DHAHH!

(ضوء؟)
لو كنا خربة وخالية وعلى حافة الهاوية، و اليأس و الجزع علينا طاوية،
عندما انكسرت الظلمات، انشقت السماء فكانت ضاوية.

(اتحملني كمانة سطرين. أو أربع. طعشر.)
"و كان كل شيء جميل و ما وجعنا شيء."*

ما وقعنا. لا في حب و لا من جاذبية. بل مع كل شهقة خففنا. و مع كل زفرة ارتفعنا. و الجزء الصغير الضعيف الضيق فينا انحلّ و اتزئطط و اتنازل عنا.

و امتلأنا الكون. و ملئنا الكون.
(حب؟ ضوء؟ فرقت؟)

"قدوس. قدوس. رب الكون و الروح، لبيك و أسلمنا و آمنا."

حتى لما رجعنا، رجعنا أخفّ و أوسع و أصفى.
لو كان منه، فما لنا إلا فيه، و أنا إليه لراجعون.

 


*من “بيت المجزرة-5.”

عن فول نيسان

في إندونيسيا، عندنا حاجة كتكوتة زي هذي:

و في موقع قياس حجم الإطار حسب طول الراكبة.

لازم تعرف بالضبط يعني؟

آخر شيء، في الخبر داه:

مين المزّة الأخضر داه؟!

جمّعت معاك الفكرة و لا لسا؟

من مخاطر الكتابة و من أساليب التفادي

من مخاطر الكتابة الإنجراف مع مواضيع الكتابة. لأن الكتابة الجيدة تتطلب مشاركة تامة من الكاتب مع مواضيعه. فلو الكاتب مش متحمس، كيف يقنع قرّاؤه؟ المشكلة تبدأ لما الكاتب يغرق في كتابته و ينسى مواعيده و يلخبط ساعات نومه. في حينها، تتزحزح مرتكزاته الروتينية و مراسيه مع الواقعية و يبدأ بالإنجراف في سيول ذهنية.

كنت بكتب عن إيلْريادو -

...إيلْريادو كانت مدينة مبنية على جبل من ذهب. من كثر الذهب اللي فيها، بدلا من الطوب و الحديد، المباني و الشوارع و الجسور اللي فيها كانت مبنية من مشتقات الذهب المسلح. كل شيء كان أصفر-ذهبي لامع، لدرجة أنهم في ساعات المغيب و الشروق تجنبوا الخروج بسبب خطر العمى-المؤقت من انعكاس ضوء الشمس المائل على الشوارع و المباني الذهبية.

بس المدينة هذه، لأجل الحفاظ على استقرارها الاقتصادي، منعت نصف سكانها من التماس الذهب العام. النصف ذاه كانوا في البداية معاقبين بالحرمان عن الذهب لأنهم أسرفوا في استهلاك و ارتداء و تكديس الذهب في مخازنهم الخاصة؛ مما أدى إلى أزمة اقتصادية مزمنة في إيلْريادو. و اضطر قيصر إيلْريادو بمنع ذلك الصنف الطامع لللامع من الشعب بأكمله، عندما نطق لعنته عليهن أجمع: "و إله القيصر و إيلْريادو، لو مشت الأميرة بنت القيصر على غبر من ذهب، لقطعت رجلها..."

اكتئبت من الحكاية لما خلصت من أول مسودة. كل عناصر الرواية الجيدة احتوتني بقدر ما استهلكت منها: تمرد و مخاوف و كراهية و يأس. و حاولت أخفف عن آثاره بالإشتكاء لشاعر. بس ما راح الكآبة. و بالعكس، كأّبت الشاعرمعايا. (و الشعراء مو ناقصهم مِلنخوليا.)

بس الكون لما يبغى منك حاجة، حيفتح لك شبابيك فرص و إقناع و تصبير إلين ما تخلص مطالبه منك، حتى لو أنزل لك دابة طائرة و رفعك لآخر السماء. (و بالعكس، لو الكون لسا مش راضي، حتى لو شلت الأرض على كتفيك و رجّيته لإسقاط ما تريده، ما كنت لقيته.)

و تعرف كيف يقولوا لك "نم عليها" بالانجليزي؟ لو الليل سحره استبصاري، فالصباح سحره عطائي. ففي صباح اليوم التالي، بينما كنت أتجهز لمسح الرواية التي كادت تقتلني من الاكتئاب و الإيثار الزائد نحو الأوهام (أي بدايات الجنون)، طلب مني أحد أصدقائي في تويتر لقراءة مسبب لمَيْـلي الانتحاري. عفوا، أقصد لجهدي الروائي.

اكتشفت منه الدواء لأدواء الكتابة: الحضور. المشاركة. الحضور. تعليق القارئ. الحضور. أيوا. يكفي الحضور. يكفي أن من أول ما سمحت له بالقراءة، تنازلت عن شيء من احتكاري العاطفي نحو المنتج الإبداعي. كسر حضوره كمشارك لمآسي سكان إيلْريادو حواجز العزلة الإبداعية اللي حصرتني في أوحش ركن في دماغي. (لأن الكتابة عملية نبش في المجهول، و جنون خدم الإبداع تبدأ من لما ما يعرف طريق العودة للمعلوم.)

ذهلت. ذهلت من بساطة الحلّ. ذهلت من صدفة حدس قارئي. ذهلت من إصرار الكون عليا - لدرجة أنه أرسل لي ما يواسيني – ربما لتتمة المشوار الطويل اللي اسمه "المراجعة".

و آخر شيء، ذهلت من سيدي تايمكيپر. أنو بعد ما حكيت له ما حدث بيني و بين الرواية و قارئها الأولاني؛ سمّع لي بيت شعر بالعربي:

وهذا كتابي نائب عن زيارتي *** كما في عدم الماء التيمم جائـــــز

أُتئ

أُتئ كانت تقرب لنا من هنا أو هناك. و الحكاية هذه صارت من زمان-من زمان، بس لساعو عم بيأثر في قراراتنا اليومية حول الأشياء الصغيرة و الكبيرة و البين-و-بين.

كان رمضان و العيد قرّب و أٌتِئ كانت في تسعيناتها و مستولية تماما على المطبخ. أولادها قالوا لها ترتاح بس ردّت عليهم أنو الضيوف جايين و لازم تلحّق عليهم. فقعدت أٌتِئ تطبخ و تطبخ و تطبخ...و ما ريّحت إلين ما خلّصت. و لما خلّصت، اتوضّأت، صلّت و أخذت قيلولة و ما حترجع تصحى ثاني إلى يوم البعث.

أمي، الله يخليها، تحكي لنا الحكاية هذي كلما تمرض و ترفض تتحاشى الطب الغربي – رغم طراطيعنا المرعوبين. تقول أنها تبغى ترجع لله مثلما رجعت له أُتئ: أنها اشتغلت، اشتغلت، اشتغلت لآخر لحظة في حياتها. و لو الطب الغربي حيقطّع في جسمها و يسرّب من روحها قبل أوانه و يمنعها عن الشغل، ما كان الشيء متوافق مع هيئة المنتهى المثالي اللي تبغى توصل لها أمي.

(أو المنتهى المثالي لستيف جوبز. فاكر؟ هو كمان اشتغل-اشتغل-اشتغل بعدين وقّف-بس-عشان-يلحق-يموت.)

و فكرت فيهن، في أمي و أُتئ، كلما أتأففت من اليوغا و مشاوير الدراجة و فرك بلاط البيت. فكرت كيف الحفاظ على اللياقة بياخذ وقت و طاقة و رضى تام بالمكتوب. و أن الحفاظ على لياقة بنية معظمها مائية زي أجسامنا - بلاش لحد المثالية، يكفي لحد ما أخلص من بلاطات الصالة - شيء يستاهل الغلبة لأجلها. مو عشان الفساتين ما يضيقوا لا تحاشياً للمرض. و لا جدالا حول عقودنا مع الوجود؛ ما هيك-هيك إحنا متواعدين مع عزرائيل لا محالة.

بس عشانه حلو لو قدرنا نستقبل السكون التام و شهادة أيدينا تنقط و تفوح منا و تؤكد علينا. عشانه حلو لو قدرنا نشتغل - نخدم الخالق و المخلوقات - إلين ما يجي ضيافة عزرائيل علينا.

و لو الشيء ديه، المنتهى البسيط اللي اتوصلت لها أٌتِئ، مش كفاية للحفاظ على سفن أرواحنا، أجل إيش بقى يستحق محاولة البقاء لأجله على وجه الأرض؟